إعادة تعريف المساكين
لقد قيل لنا
في المدارس إن المسكين تعني الفقير ، وهذا ما تذكره الموسوعة الفقهية الكويتية :
(( ..إذا أطلق لفظ ( الفقراء ) وانفرد ، دخل فيهم ( المساكين ) ، وكذلك عكسه ،
وإذا جمع بينهما في كلام واحد ، كما في آية مصارف الزكاة ، تميز كل منهما بمعنى .
وقد اختلف الفقهاء في أيهما أشد حاجة )) ، ويؤكد نفس المعنى موقع إسلام ويب :
1. أن الفقير
أحسن حالاً من المسكين .
2. العكس وهو أن
المسكين أحسن حالاً من الفقير.
3. لا فرق بينهما
من حيث المعنى وإن اختلفا في الاسم .
وخلاصة الأقوال الفقهية أنه عند الحنفية والمالكية
: "المسكين أسوأ حالاً من الفقير" . بينما عند الشافعية والحنابلة والظاهرية
والإباضية والجفعرية : "المسكين أحسن حالاً من الفقير" ، وهذا اختيار
ابن باز وابن عثيمين. فالمسكين هو الفقير ومكمن الجدل هو : من الأشد حاجة فقط ، ويلخص
محمد راتب النابلسي في موسوعته القول : (( على كلّ هناك صنف من الناس لا يملك
شيئاً سمه ما شئت، وهناك صنف من الناس دخله دون حاجته سمه ما شئت، الصنفان يستحقان
الزكاة.)) هذه المقولة تلخص المأزق الذي وصل له الفقهاء من ترديد الأقوال، وعدم
القدرة على التفريق بين الفقير والمسكين ، وقد استمر هذا الأمر ألف عام ! .
هذا
الجدل الفقهي حدث أيضاً عند أهل اللغة فنجد ابن السكيت ويونس وثعلب، والفراء، وابن
قتيبة اختاروا قول " المسكين أسوأ حالاً من الفقير " ، بينما نجد الأصمعي
والثعالبي اختاروا قول : "المسكين أحسن حالاً من الفقير"، فهاهو
الثعالبي في فقه اللغة وأسرار العربية يقول : (( لاح لي في الرد على ابن قتيبة حين
فرق بين الفقير والمسكين .. قال ابن قتيبة : الفقير الذي له بلغة من العيش
والمسكين الذي لا شيء له .. وقد غلط لأن المسكين هو الذي له البلغة من العيش
)) . ومن المعاصرين المهتمين بالمفردة القرآنية ، أحمد الكبيسي الذي رجح أن
المسكين هو الأشد حاجة ، بينما فاضل السامرائي رجح أن الفقير أشد حاجة.
والسبب
فيما سبق من جدل هو عدم حسم المعاجم العربية معنى المسكين ، رغم بعض الإشارات في
لسان العرب لابن منظور على سبيل المثال : (( السكون ضد الحركة ، سكن الشيء يسكن
سكونا إذا ذهبت حركته ،.. الساكن من الناس والبهائم خاصة ، قال وسكن هدأ بعد تحرك ،
.. وسكان
السفينة عربي ، والسكان ما تسكن به السفينة ، تمنع به من الحركة والاضطراب ، ..
السكين فعيل من ذبحت الشيء حتى سكن اضطرابه، .. سميت سكيناً لأنها تسكن الذبيحة،
أي تسكنها بالموت ، وكل شيء مات فقد سكن ،.. المسكين الذي أسكنه الفقر ، أي قلل حركته ))
فالسكون ضد الحركة ، والمسكين ضد المتحرك ، ودلالة جذر سكن في القرآن الكريم كلها
تدور حول هذا المعنى ، وعلى سبيل المثال :
1 - ﴿ يُسْكِنِ الرِّيحَ ﴾ [الشورى :32- 33] فالريح
تسكن وتتوقف حركتها .
2 - ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾
[الأنعام:13] ما توقف عن الحركة .
3- ﴿ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ
سَاكِنًا﴾ [الفرقان: 45] سكون الظل ثباته وعدم تحركه .
فكل معاني جذر سكن تدل على توقف الحركة ، وفي
علم دلالة الأحرف يذكر ابن فارس : (( السين والكاف والنون
أصلٌ واحد مطّرد، يدلُّ على خلاف الاضطراب والحركة.. والسِّكِّين معروف، قال بعضُ
أهل اللغة: هو فِعِّيل لأنّه يسكّن حركةَ المذبوح به.)) ، ويشير إلى ذلك
المعنى سامر الإسلامبولي : (("سكن" منع الحركة بكتاب الكاف إلى حد
الخفاء بكتاب النون)) .
لقد اقترن في
القرآن الكريم المسكين بالمهاجرين ، الذين أصبحوا كالمشردين بلا مأوى ، فحدثت
المؤاخاة مع الأنصار ليقوموا برعايتهم ، كذلك اقترن المسكين بالوالدين في 4 مرات ،
وذوي القربى 10 مرات ، وباليتيم 10 مرات ، وبابن السبيل 7 مرات ، ومرة بالأسير ،
وكل هذه الفئات تحتاج رعاية واهتمام ودعم ومساندة ، بسبب دلالة الجذر سكن على
توقفهم عن الحركة ، أو قلتها بسبب عجزهم الكلي أو الجزئي وقلة حيلتهم. وقد تم شرح
هذا المعنى في الآيات التالية:
1 - ﴿ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد
: 16] ، فهو غير القادر على الحركة كلياً حتى لصق بالتراب ، أو كما يقول ابن همام
الحنفي: (( موضع الاشتقاق وهو السكون يفيد المطلوب كأنه
عجز عن الحركة فلا يبرح .)) ارتباط المسكين بعدم الحركة يتبناه محمد علي
التهانوي وكذلك أحمد بن محمد الطحطاوي ((مسكين من السكون فكأنه ساكن من الجهد ، غير متحرك )) ،
أما لماذا لا يتحرك فبتعريف أبي طالب المكي : ((والمسكين الذي به زمانة)) ، وتعريف
الزمانة في المعجم اللغوي والفقهي ، هي المرض المزمن والعاهة المستديمة ، وتشمل كل
أنواع العجز والأمراض وكبر السن ، وكل ما يعوق الإنسان عن الحركة ، أو يتسبب في
صعوبتها . فالسكون وعدم الحركة مرتبط بمفهوم المسكين ، وهناك طيف من قلة الحركة ،
إلى صعوبتها ، إلى عدم الحركة نهائياً والإلتصاق بالأرض ، فيكون ذا متربة .
2 - ﴿
وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ.. لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ ﴾ [
البقرة : 270 ، 273] ، قيل في تعريف الفقير إنه الذي لا يسأل ، بينما المسكين هو الذي يسأل
، بينما في الحقيقة هو أن الفقير قد لا يعرف من مظهره ، بينما يعرف المسكين من مظهره
بسبب زمانته ومرضه المزمن وإعاقته ، لذلك ليس بحاجة للسؤال فحاله يدل عليه .
3 - ﴿
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ
أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [
الكهف : 79] ، هذه الآية كانت مثار جدل عند المفسرين والفقهاء ، فكيف يمتلك المساكين
السفينة ، ثم نعتبرهم بحاجة لدعم ومساندة ، فاختاروا القول بأن المسكين أحسن حالاً
من الفقير ، بينما لو فهمنا أن المسكين من يحتاج الرعاية حتى لو امتلك المال ، لتم
فك شيفرة المعنى ، وقد وضع العز بن عبدالسلام هذه الاحتمالية عند شرحه للأية (( ﴿
لِمَسَاكِينَ ﴾ فقراء، أو كانت بهم زمانة وعلل)).
1-
المسكين غير الفقير فقد ورد مصطلح الفقير بألفاظ
أخرى .
2-
المسكين قد يملك المال ويشتري العبيد ، فقد ورد
في قانون أشنونا ، أن المساكين لديهم
أملاك من الرقيق في المادة 50 ، وأملاك من الحقول في المادة 12 ، ليس بالضرورة أن
يكون المسكين من الفقراء .
أما عند دراسة قانون حمورابي ، فنجد حمورابي قد كتب في شريعتة : (( أنا حمورابي ..
أمنع الأقوياء من أن يظلموا الضعفاء..إن الملك أصدر هذا القانون لئلا يظلم القوي
الضعيف )) ، لذلك تمت دراسة القوانين وعلاقتها بالمساكين باعتبارهم ضعفاء ، وهنا
خلاصة الأقوال :
1-
المسكين تعني المحروم اجتماعياً ، والواهن غير
الفعال ، والضعيف والمضطهد .. وتستخدم في الاشتقاق بالضد من القوة [ أي الضعف] .
2-
المسكين بمعنى (ينحني أو يسجد) الخاضع والواضع
يديه على فمه، بمعنى التضرع والصلاة ، وعدم قدرته على الحركة.
3-
المسكين تعني المعتمد على الغير ، وشخص غير مؤهل
للقيام بخدمة ،والعاجز تماماً .
4-
المسكين تعني التابع للملك وللقصر ، فهو في
حماية الملك وعلى كفالة القصر .
5-
المسكين تعني المحاربون القدماء، يمنحوا أراضي
لزراعتها والإعفاء من الضرائب والالتزامات الإقطاعية .
*إن
المحارب في الحضارات القديمة لا يتوقف عن المشاركة في الحروب إلا بسبب العجز سواء
بسبب إصابته في المعارك أو الطعن في السن .
6-
المسكين تم مراعاته في دفع التعويضات، واستمرت
النظرة الدونية في بعض العقوبات .
7-
إن تقسيم قوانين حمورابي الناس إلى رجال
[الأحرار الأصحاء القادرين على الكسب] ومساكين وعبيد هدفه كما يرى بعض
الباحثين : (( أن المشرع عني بأن يكون هذا
التقسيم أساسا لتحديد مكافئة الطبيب ، فما كان على الحر أن يدفعه يتوجب على
المسكين دفع أقل منه وعلى العبد دفع جزءاً منه )).
8-
إيمان عباس الخفاف: (( لقد عرف الإنسان الإعاقة
الحركية منذ أقدم العصور ، ويشير البعض من المهتمين في تاريخ التشريع بشكل عام، والتشريعات المهتمة بالتربية الخاصة ، ورعاية
ذوي الاحتياجات الخاصة، إن الحضارة
البابلية المتمثلة بحمورابي ملك البابليين ، قد سجل تشريعات لذوي الاحتياجات
الخاصة ، على ألواح الطين بجانب قوانين الجزاء والعقاب .))
مما
سبق إن دراسة مصطلح مسكين ، في الأكدية يقودنا إلى أن: المساكين هم الضعفاء الذين
تعهد حمورابي بحمايتهم ، فمعنى المسكين الضعيف والراكع الساجد ، غير القادر على
الحركة ، والمتضرع ،والذي لا يستطيع الخدمة ، ويعتمد على الغير ، وقد يكون عاجزاً
تماماً ، أو من المحاربين القدماء ، الذين تعرضوا لإصابات في الحروب ، وهم على
كفالة القصر ، فلهم منح وهبات ، تم مراعاتهم في القوانين من خلال التعويضات أو
العقوبات ، أو في دفع تكاليف علاجهم ، كونهم فئة لها معاناتها الصحية الجسدية أو
العقلية ، وهناك من أشار من الباحثين أن المساكين في قوانين حمورابي تعني أنهم من
ذوي الاحتياجات الخاصة .
أما في الكتاب
المقدس بعهديه، القديم والجديد، فإنه تم التفريق بين الفقير والمسكين ، وقد اقترن
لفظ الفقير بالمسكين مراراً ، وإحدى الفقرات شرحت معنى المسكين، وهم من بهم زمانة:
((إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة ÷فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان.))
ترجمة دار المشرق (إنجيل لوقا 14: 12-14) . كما في سورة التوبة التي قرنت الفقير
بالمسكين، ثم شرحت معنى المسكين بالضعفاء ، الضعف الجسدي أو العقلي ، كذلك في هذه
الفقرة ، فقد اقترن الفقير بالمسكين مراراً ، وتم شرح المسكين في هذه الفقرة بـ"الكُسْحانَ
والعُرْجانَ والعُمْيان " أي أهل الزمانة، وأنهم من ذوي الاحتياجات الخاصة .
وإذا انتقلنا إلى الشعر فهو ديوان العرب ولغته ، فإن الشعراء من المساكين
تحدثوا عن أنفسهم ، فهذا بشار بن برد وهو
أعمى به زمانة ومن فئة المساكين ، يطلب من ينتمي إليهم من كعب مساعدته ويهجو من يرفض مساعدته لأنه مسكين
:
خليلي من كعـبٍ أعينا أخاكمـا
|
|
على دهـره إن الكريمَ معينُ
|
ولا تبخلا بخـل ابن قزعة إنّـهُ
|
|
مخافـة أن يرجى نداه حزينُ
|
|
مخافةَ سؤلٍ ، واعتراه جنونُ
|
وأبو العلاء
المعري أيضاً أعمى ،
ينتمي لفئة المساكين، ويتحدث بلسانهم وعنهم وعن رغبته بمساندتهم :
|
قَليلاً وَلَو مِقدارَ حَبَّةِ خَردَلِ
|
|
وَلا تَحتَقِر شَيئاً تُساعِفُهُ بِهِ
|
|
فَكَم مِن حَصاةٍ أَيَّدَت ظَهرَ مِجدَلِ
|
وحكى أمنياته وما يرغب بتقديمه للمساكين :
إِذا وَهَبَ اللَهُ لي نِعمَةً
|
|
أَفَدتُ المَساكينَ مِمّا وَهَب
|
جَعَلتُ لَهُم عُشرَ سَقيِ الغَمامِ
|
|
وَأَعطَيتُهُم رُبعَ عُشرِ الذَهَب
|
وآنست ما قد قالَ غيريَ شاكياً
|
|
ومثليَ من غنى ومثلك من أغنى
|
|
برزقي وإلا فارزقوني مع الزمنى
|
وهو يصف نفسه ، فقد تم تعيينه في ديوان الإنشاء
بالقاهرة. لكنه لم يستطع مباشرة عمله ، لضعفه وتقدمه في السن، فأعفاه السلطان، وأجرى
عليه راتبه ، إلى أن تُوفِّي بالمارستان المنصوري في القاهرة، وقد تجاوز الثمانين. هذا
التعريف للمسكين يشرح الآتي : إما عمل ، فيكون مصدر الرزق من خلال الصنعة ، أو بلا
عمل ، فيستحق أن يوهب الرزق والصدقات ، مع الزمنى " المساكين " .
وبتتبع تعريف المسكين في التراث، فإن هناك العديد من
الشخصيات التاريخية الكبرى، التي عرفت المسكين بأنه من به زمانة " من ذوي
الاحتياجات الخاصة " . نجد تعريف عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ﴿ إِنَّمَا
الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين﴾ قَالَ: هم زَمْنى أهل الْكتاب ، في حادثة
اليهودي، الذي كان يعمل ويدفع الجزية ، ثم
شاخ وفقد بصره، ولم يعد يعمل/ فأصبح من الزمنى المساكين ، فكان هذا شرحاً من عمر
للآية، بأن هذا اليهودي، أصابته الزمانة فهو مسكين، يستحق أن يدفع له من الصدقة،
بغض النظر عن معتقده . وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (( اعلم أنّ الناس خمس
طبقات .. ومنهم الطبقة السفلى ، وهم أهل الحاجة والمسكنة ، يبتلون بالحاجة إلى
جميع الناس .. ولا تضيعن أمور الطائفة الأخرى، من المساكين وذوي الحاجات .. وتفقّد
حاجات مساكين الناس وفقرائهم .. فإنّ هزيل الرعية، أحوج إلى الانصاف والتعاهد، من
ذوي السمانة ، وتعاهد أهل الزمانة والبلاء ، وأهل اليتم والضعف ، وذوي الستر من أهل
الفقر ..)) وفي نص آخر له : (( ثم الله الله في الطبقة السفلى، من الذين لا حيلة
لهم ، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى )) فتم شرح المسكين بأهل الزمانة
والبلاء وأهل البؤس والزمنى أي من ذوي الاحتياجات الخاصة. وفي التراث الشيعي والذي
هو تراث إسلامي أيضاً ، نجد جعفر الصادق يقول : ((
المساكين هم أهل الزمانة، من العميان والعرجان والمجذومين ، وجميع أصناف الزمنى من
الرجال والنساء والصبيان)) . ومن تلاميذ الصادق الإمام أبو حنيفة عند السنة، حيث
يتفق مع الإمام الصادق فيذكر : (( الفقير الذي يسأل، ويظهر الفقارة ،وحاجته إلى
الناس، والمسكين هو الذي يسأل ولا يعطى، وبه زمانة)) . و علي
بن موسى الرضا عند الشيعة، يتبع من سبقه حيث يقول : (( علة الزكاة ، من أجل
قوت الفقراء وتحصين أموال الأغنياء. لأن الله ـ عز وجل ـ كلف أهل الصحة ، القيام
بشأن أهل الزمانة والبلوى )) فهنا صنف الفقراء وصنف المساكين الذين بهم زمانة . وعودة
لأهل السنة، فنجد الإمام الشافعي يقول: إن الفقير هو من به زمانة. ثم تراجع عن
قوله في مذهبه الجديد ، حيث نسب إليه القول : ((الفقير : الزمنى الضعاف الذين لا
حرفة لهم)) ويذكر النووي تراجعه عن ذلك : (( الفقير : .. ولا يشترط فيه الزمانة
ولا التعفف عن المسألة على الجديد)) والروياني يحسم المعنى عن الشافعي : ((مساكين
أهل الجهاد الذين قد عجزوا عنه بالمسكنة أو الزمانة ولا حق فيه لغيرهم من المساكين
)) .
وبالانتقال للباحثين والمفكرين ، ورجال الدين اليوم ، نجد
منهم من عرف المسكين بذوي الاحتياجات الخاصة ، فقد عرف المسكين سمير إبراهيم خليل
حسن : (( العاجز الساكن عن العمل .. الذي سكن عن العمل، بسبب عورة في جسمه
تمنعه )) ومحمد شحرور : (( هو الإنسان القليل الحيلة، أي الذي فيه سكون نسبي عن
غيره، كالأعمى والأصم الأبكم، والمقعدين والقاصرين عقليا ، أو فاقدي أحد أعضاء
الحركة ،كاليد أو الرجل أو الكف. كل هؤلاء الناس يدخلون تحت بند المساكين.)) ، وراتب عبدالوهاب السمان : (( الكائن: ذهبت حركته وتوقف:
يهدأ ويتوقف عن الحركة والعمل، بعد أن كان يتحرك ويعمل .. من يعاني نقصاً في قدرة
الفعل ، والحركة والعمل "عاجز أو معاق جسدياً أو نفسياً أو مالياً أو
اجتماعياً " ..)) ، ومن الرموز السنية السلفية ، الشيخ
محمد الحسن الدَّدَوْ : (( المسكين مشتقٌ من السكون، فمعناه أن يده قد سكنت عن
التصرف، ليس يملك ولا يستطيع أن ينتج ويكسب .. المسكين من سكنت يده عن التصرف،
فالذي يملك بلغة لا تكفيه، بلغة لعامه فهو فقير، ولكن لا يطلق عليه مسكين، إلا إذا
كان لديه عجز معين، سواء كان ذلك العجز خلقياً ، أو كان عجزاً معنوياً، فالضعيف في
تدبيره والضعيف في خلقته ،والضعيف في عقله كلهم مساكين)) ، ومن الرموز الشيعية السيد مرتضى القزويني : (( المسكين فقير وما عنده قدرة
على الكسب، كأن يكون مثلاً أعمى أو أعرج، ما يقدر يمشي، ما يشوف،أو مـﮕرّم [كسيح] مثلاً،
أو مصاب بمرض مكلبة [مكبله] بالأرض، لا يقدر يتاجر، لا يقدر يشتغل، لا عمل، ما
يقدر كل شي )) .
الخلاصة أن المسكين تعني في القرآن وفي اللغة ، وفي الحضارات القديمة ، الساكن عن العمل، من به عجز كلي أو جزئي ،
وسواء تم تسميتهم في التراث الزمنى وأهل الزمانة أو الضمنى ، أو تم تسميتهم اليوم
بالمعوقين ، أو أصحاب الهمم ، أو أهل العزم ، أو ذوي الاحتياجات الخاصة ، فلا
إشكال في التسميات ، فالعرب كانت تسمي اللديغ بالسليم ، والأعمى أبا بصير ،
والمجنون بالمطبوب وغير ذلك ، مع أن المسكين لفظ محايد ، ولا يعني غير السكون وعدم
الحركة . المهم هو أن المساكين "خط أحمر" في الوحي المقدس : ﴿
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ .. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ ﴾ [االماعون: 1-3] فاقترن التكذيب بيوم الدين ، بعدم الحض على إطعام
المسكين ، ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ؟
قَالُوا : لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾ [المدثر: 42-44] واعتبر دخول
جهنم ، بسبب عدم الصلة بالله وبالناس ، وعدم إطعام هذه الفئة التي لم يوازيها أي
اهتمام مثيل في القرآن الكريم :
1-في
الصدقات مخصصات لهم :
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [التوبة : 60]
2-الفدية مخصصة للمساكين
: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا
مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ
فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ
إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة :183 – 184 ]
3-للمساكين نصيب من
الكفارات أيضاً : ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ [ المائدة : 89] ، ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن
نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ
أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ
أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ
ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ [المجادلة
: 3-4 ] ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ
حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ
أَمْرِهِ ﴾ [المائدة : 95] .
إن
المساكين فئة تستحق الاهتمام ، وقد نالته
في النص المقدس ، لكن المعنى اندثر ، ومع ذلك فإن التراث مادة غنية ، ويحتاج إلى النقد
والتمحيص ، والعودة إلى الآيات ودراستها ، واللجوء للقرآن هو الغاية، دون وسطاء ،
فالنص بين أيدينا ودراسته من خلال اللغة ، ومن خلال محيطه التاريخي مطلب ، فالنص
وجد كي يتم تدبره ، وليس ترديده كطلاسم ، وأشارت هذه الدراسة إلى ضياع معنى
المسكين، طوال ألف عام، كما تشير إلى أن رجال الدين ، قد يكونون حاجباً يحجب نور
القرآن، وتأثيره على حياتنا وسلوكنا اليومي ، فلم ينل المساكين الاهتمام المناسب ،
بسبب ضياع المعنى ، وبسبب رجال الدين الذين تجاهلوهم ، كما أنها دعوة لتنقية
ودراسة التراث من جديد، فإن
كنت ناقداً للتراث ، فأنا هنا أنتصر للتراث ، باستخراج تلك المعاني المطابقة
للقرآن الكريم ، واللغة والسياق التاريخي ، وما ذكرته الحضارات القديمة . وهي دعوة
لإعادة فهم الكثير من المصطلحات القرآنية ، وما إعادة تعريف المسكين إلا أحد
المفاهيم ، وجار العمل على إعادة تعريف مصطلحات قرآنية أخرى ، وهي دعوة للباحثين
إلى فهم النص القرآني وتدبره من جديد .
أبو
إلياس سويد الأحمدي
للمزيد من الاطلاع
الموثق بالمراجع والمصادر
كتاب إعادة تعريف
المساكين : 200 صفحة
لمن ليس لديه القدرة الإطلاع
على الكتاب ، وخاصة من هم من ذوي الاحتياجات الخاصة ،
هنا يمكنك سماع
المقال صوتياً بإلقاء رقية من الجزائر @Ftatmnamtagmai3 Twitter:،
مع إخراج فني بصري
لخلاصة الكتاب :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق